فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد القرطبي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} {ثمانِيةَ} منصوب بفعل مضمر، أي وأنشأ {ثمانية أزواج}؛ عن الكسائي.
وقال الأخفش سعيد: هو منصوب على البدل من {حَمُولَةً وَفَرْشًا}.
وقال الأخفش عليّ بن سليمان: يكون منصوبًا ب{كُلُوا}؛ أي كلوا لَحم ثمانية أزواج.
ويجوز أن يكون منصوبًا على البدل من ما على الموضع.
ويجوز أن يكون منصوبًا بمعنى كلوا المباح {ثمانية أزواج من الضأن اثنين}.
ونزلت الآية في مالك بن عوف وأصحابه حيث قالوا: {مَا فِي بطون هذهِ الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} فنبّه الله عز وجل نبيّه والمؤمنين بهذه الآية على ما أحلّه لهم؛ لئلا يكونوا بمنزلة من حرّم ما أحله الله تعالى.
والزوج خلاف الفَرْد؛ يقال: زَوْج أو فَرْد.
كما يقال: خَسًا أو زَكًا، شفع أو وتر.
فقوله: {ثمانية أزواج} يعني ثمانية أفراد.
وكل فَرْد عند العرب يحتاج إلى آخر يُسَمَّى زوجًا، فيقال للذكر زوج وللأنثى زوج.
ويقع لفظ الزوج للواحد وللاثنين؛ يقال هما زوجان، وهما زوج، كما يقال: هما سيّان وهما سواء.
وتقول: اشتريت زَوْجي حمام.
وأنت تعني ذكرًا وأنثى.
الثانية: قوله تعالى: {مَّنَ الضأن اثنين} أي الذكر والأنثى.
والضأن: ذوات الصوف من الغنم، وهي جمع ضائن.
والأنثى ضائنة، والجمع ضوائن.
وقيل: هو جمعٌ لا واحد له.
وقيل في جمعه: ضئين؛ كعَبْد وعَبِيد.
ويقال فيه: ضِئين.
كما يقال في شَعير: شِعير، كسرت الضاد اتباعا.
وقرأ طلحة ابن مُصَرِّف {من الضَّأَنِ اثنين} بفتح الهمزة، وهي لغة مَسموعة عند البصريين.
وهو مطّرد عند الكوفيين في كل ما ثانيه حرفُ حلق.
وكذلك الفتح والإسكان في المعز.
وقرأ أبَان بن عثمان {مِن الضَّأْن اثنان ومِن المعز اثنان} رفعًا بالابتداء.
وفي حرف أُبَيّ {وَمِنَ الَمْعز اثنان} وهي قراءة الأكثر.
وقرأ ابن عامر وأبو عمرو بالفتح.
قال النحاس: الأكثر في كلام العرب المعْز والضّأْن بالإسكان.
ويدل على هذا قولهم في الجمع: معيز؛ فهذا جمع معْز.
كما يقال: عبد وعبيد.
قال امرؤ القيس:
ويَمْنَحُها بنو شَمَجَى بن جَرْم ** مَعِيزَهُم حَنانَكَ ذا الحنَانِ

ومثله ضأن وضئين.
والمعز من الغنم خلاف الضأن، وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار، وهو اسم جنس، وكذلك المَعَز والمِعيزُ والأُمعُوز والمِعزى.
وواحد المَعْز ماعز؛ مثل صاحب وصَحْب وتاجر وتَجْر.
والأنثى ماعزة وهي العَنز، والجمع مواعز.
وأمعز القومُ كثرت معزاهم.
والمعّاز صاحب المعزى.
قال أبو محمد الفَقْعَسِيّ يصف إبلًا بكثرة اللبن ويفضلها على الغنم في شدة الزمان:
يَكِلْنَ كَيْلًا ليس بالْمَمحُوقِ ** إذْ رَضِيَ المعَّاز باللعُوقِ

والمَعَز الصلابة من الأرض.
والأمْعَز: المكان الصُّلب الكثير الحصى؛ والمعْزَاء أيضًا.
واستمعز الرجل في أمره: جَدّ.
{قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ} منصوب ب{حرّم}.
{أَمِ الأنثيين} عطف عليه.
وكذا {أَمَّا اشتملت}.
وزيدت مع ألف الوصل مَدّة للفرق بين الاستفهام والخبر.
ويجوز حذف الهمزة لأن أم تدل على الاستفهام.
كما قال:
تَرُوحُ من الحَيِّ أم تَبْتَكِرْ

الثالثة: قال العلماء: الآية احتجاج على المشركين في أمر البَحيرة وما ذُكر معها.
وقولهم: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا}.
فدلّت على إثبات المناظرة في العلم؛ لأن الله تعالى أمر نبيّه عليه السلام بأن يناظرهم، ويبيّن لهم فساد قولهم.
وفيها إثبات القول بالنظر والقياس.
وفيها دليل بأن القياس إذا ورد عليه النص بطل القول به.
ويروى: إذا ورد عليه النقض؛ لأن الله تعالى أمرهم بالمقايسة الصحيحة، وأمرهم بطرد علتهم.
والمعنى: قل لهم إن كان حرّم الذكور فكل ذكر حرام.
وإن كان حرم الإناث فكل أنثى حرام.
وإن كان حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، يعني من الضأن والمعز، فكل مولود حرام، ذكرًا كان أو أنثى.
وكلها مولود فكلها إذًا حرام لوجود العلة فيها، فبيّن انتقاض علّتهم وفساد قولهم؛ فأعلم الله سبحانه أن ما فعلوه من ذلك افتراء عليه {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ} أي بعلم إن كان عندكم، مِن أين هذا التحريم الذي افتعلتموه؟ ولا علم عندهم؛ لأنهم لا يقرءون الكتب.
والقول في: {وَمِنَ الإبل اثنين} وما بعده كما سبق {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ} أي هل شاهدتم الله قد حرّم هذا.
ولمّا لزمتهم الحجة أخذوا في الافتراء فقالوا: كذا أمر الله.
فقال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ} بيّن أنهم كذبوا؛ إذ قالوا ما لم يقم عليه دليل. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ}
هَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى تَمَامِ الْعَشْرِ بَعْدَهَا فِي تَتِمَّةِ سِيَاقِ مَسْأَلَةِ تَحْرِيمِ الْمُشْرِكِينَ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَغْذِيَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّهُ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمُنَزَّلَةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ أُصُولِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ لَا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مِنْ جَهَالَاتِهِمْ وَضَلَالَاتِهِمُ الْعَمَلِيَّةِ، ذَلِكَ أَصْلُ الدِّينِ الْأَعْظَمُ تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى بِاعْتِقَادِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لَهُ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَحَقِّ التَّشْرِيعِ بِأَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا رَبَّ وَلَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا إِلَهَ يُعْبَدُ مَعَهُ أَوْ مِنْ دُونِهِ، وَلَا شَارِعَ سِوَاهُ لِعِبَادَةٍ وَلَا حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ، وَفِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ مُنْتَهَى تَكْرِيمِ الْإِنْسَانِ. فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} الْإِنْشَاءُ إِيجَادُ الْأَحْيَاءِ وَتَرْبِيَتُهَا، وَكَذَا كُلُّ مَا يَكْمُلُ بِالتَّدْرِيجِ كَإِنْشَاءِ السَّحَابِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ وَالشِّعْرِ وَالدُّوْرِ وَالْجَنَّاتِ الْبَسَاتِينَ وَالْكُرُومِ الْمُلْتَفَّةِ الْأَشْجَارِ بِحَيْثُ تَجُنُّ الْأَرْضَ وَتَسْتُرُهَا. وَالْمَعْرُوشَاتُ الْمَسْمُوكَاتُ عَلَى الْعَرَائِشِ وَهِيَ مَا يُرْفَعُ مِنَ الدَّعَائِمِ وَيُجْعَلُ عَلَيْهَا مِثْلُ السُّقُوفِ مِنَ الْعِيدَانِ وَالْقَصَبِ. وَمَادَّةُ عَرَشَ تَدُلُّ عَلَى الرَّفْعِ وَمِنْهَا عَرْشُ الْمَلِكِ. وَالْمَعْرُوشَاتُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، يُقَالُ: عَرَّشَ دَوَالِيَ الْعِنَبِ عَرْشًا وَعُرُوشًا وَعَرَّشَهَا تَعْرِيشًا إِذَا رَفَعَهَا عَلَى الْعَرِيشِ. وَيُقَالُ: عَرَّشَتِ الدَّوَالِي تُعَرِّشُ (بِكَسْرِ الرَّاءِ) إِذَا ارْتَفَعَتْ بِنَفْسِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَعْرُوشَاتِ مَا يُعَرِّشُ مِنَ الْكَرْمِ وَغَيْرِهِ، وَغَيْرَ الْمَعْرُوشَاتِ مَا لَا يُعَرِّشُ مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ الْأَوَّلَ: مَا عَرَّشَ النَّاسُ أَيْ فِي الْأَرْيَافِ وَالْعُمْرَانِ. وَالثَّانِي مَا خَرَجَ فِي الْجِبَالِ وَالْبَرِّيَّةِ مِنَ الثَّمَرَاتِ. وَالْمَعْهُودُ أَنَّ الْكَرْمَ مِنْهُ مَا يُعَرِّشُ وَمِنْهُ مَا يُتْرَكُ مُنْبَسِطًا عَلَى الْأَرْضِ، وَكُلُّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْرُوشَاتِ الَّتِي أَوْدَعَ اللهُ فِيهَا خَاصِّيَّةَ التَّسَلُّقِ وَالِاسْتِمْسَاكِ بِمَا تَتَسَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ عَرِيشٍ مَصْنُوعٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ جِدَارٍ وَنَحْوِهِ، فَالْمُتَبَادِرُ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْقِسْمَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ أَنْوَاعُ الْمَعْرُوشَاتِ بِالْقُوَّةِ كَالْكَرْمِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَا تُعَرِّشُ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَبِالثَّانِي غَيْرُ الْمَعْرُوشَاتِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ الَّذِي يَسْتَوِي عَلَى سُوقِهِ وَلَا يَتَسَلَّقُ عَلَى غَيْرِهِ، وَخَصَّهُمَا بَعْضُهُمْ بِالْكَرْمِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَطْفُ النَّخْلِ عَلَيْهِ وَقَرْنُهُ بِهِ لِأَنَّهُ قَسِيمُهُ فِي كَوْنِ ثَمَرِهِمَا مِنْ أَصُولِ الْأَقْوَاتِ وَقَرِينَهُ فِيمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالشَّبَهِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّخْلَ مِنْ قِسْمِ الْجَنَّاتِ غَيْرِ الْمَعْرُوشَاتِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ تَخْصِيصًا لَهُ مِنْ إِفْرَادِ الْعَامِّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْكَثِيرَةِ وَلاسيما لِلْعَرَبِ، فَإِنَّ بُسْرَهُ وَرُطَبَهُ فَاكِهَةٌ وَغِذَاءٌ وَثَمَرَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَقْوَاتِ الَّتِي تُدَّخَرُ، وَأَيْسَرِهَا تَنَاوُلًا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، لَيْسَ فِيهِ مُؤْنَةٌ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى طَبْخٍ وَلَا مُعَالَجَةٍ، وَنَوَاهُ عَلَفٌ لِلرَّوَاحِلِ، وَلَهُمْ مِنْهُ شَرَابٌ حَلَالٌ لَذِيذٌ إِذَا نُبِذَ فِي الْمَاءِ زَمَنًا قَلِيلًا- وَهُوَ النَّبِيذُ أَيِ النَّقُوعِ- وَكَانَ أَكْثَرُ خَمْرِهِمْ مِنْهُ وَمَنْ بُسْرِهِ (وَلَا مِنَّةَ فِي الرِّجْسِ) دَعْ مَا فِي جَرِيدِ النَّخْلِ وَلِيفِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ، فَهُوَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْمَزَايَا يُفَضَّلُ الْكَرْمُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ الشَّجَرِ مِنْهُ وَأَشْبَهُهُهُ بِهِ شَكْلًا وَلَوْنًا فِي عِنَبِهِ وَزَبِيبِهِ وَمَنَافِعِهِ تَفَكُّهًا وَتَغَذِّيًا وَتَحَلِّيًا وَشُرْبًا:
ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الزَّرْعَ وَهُوَ النَّبَاتُ الَّذِي يَكُونُ بِحَرْثِ النَّاسِ، وَهُوَ عَامٌّ لِكُلِّ مَا يُزْرَعُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ فِيمَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْجَنَّاتِ بِالْكَرْمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِمَا يَأْتِي مِنْهُ الْقُوتُ كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ، وَيَكُونُ تَرْتِيبُ الْمَعْطُوفَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى فِي التَّغْذِيَةِ وَاقْتِيَاتِ النَّاسِ إِلَى الْأَعْلَى وَالْأَعَمِّ، فَإِنَّ الْحُبُوبَ هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا مُعَوَّلُ أَكْثَرِ الْبَشَرِ فِي أَقْوَاتِهِمْ، وَهَذَا عَكْسُ التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [99] فَتَرْتِيبُ الْأَقْوَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَرِيقِ التَّدَلِّي مِنَ الْأَعْلَى فِي الِاقْتِيَاتِ إِلَى الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذِهِ جَاءَتْ فِي مَقَامِ سَرْدِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَقَبْلَهَا آيَاتٌ فِي آيَاتِهِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَفِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ دُونَهُ، وَعَالَمُ النَّبَاتِ أَدْنَى مِنْهُمَا، فَرُوعِيَ التَّدَلِّي فِي أَنْوَاعِهِ كَمَا رُوعِيَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ. وَالْمَقَامُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا وَمَا بَعْدَهَا مَقَامُ ذِكْرِ الْأَقْوَاتِ لِبَيَانِ شَرْعِ مَنْشَئِهَا فِي إِبَاحَتِهَا، فِي مُقَابَلَةِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا ذُكِرَ قَبْلَهَا مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ بِأَهْوَاءِ الشِّرْكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} إِلَخْ فَقَدَّمَ هُنَالِكَ الْحَرْثَ عَلَى الْأَنْعَامِ لِأَنَّ ضَلَالَهُمْ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ ضَلَالِهِمْ فِيهَا. وَجَرَى هُنَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فَذَكَرَ الْحَرْثَ أَوَّلًا لِمَا ذُكِرَ، وَتَرَقَّى إِلَى ذِكْرِ الْأَنْعَامِ لِكَثْرَةِ ضَلَالِهِمْ فِيهَا وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ تَفْصِيلِ الْقَوْلِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْمُهِمِّ إِلَى الْأَهَمِّ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَتَأْخِيرٌ لَمَّا اقْتَضَتِ الْحَالُ إِطَالَةَ الْقَوْلِ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ. فَحَسُنَ التَّرَقِّي فِي ذِكْرِ أَنْوَاعِ الْأَقْوَاتِ النَّبَاتِيَّةِ تَفْصِيلًا كَمَا حَسُنَ فِيمَا بَيْنَهَا بِجُمْلَتِهَا وَبَيْنَ الْأَقْوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْمَقَامِ فِي الْآيَتَيْنِ قَالَ فِي آيَةِ: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} [99] وَقَالَ هُنَا: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} وَلَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَرَّضَ لِهَذِهِ النُّكَتِ هُنَا.
أَنْشَأَ تَعَالَى مَا ذَكَرَ {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} الْأُكُلُ مَا يُؤْكَلُ وَفِيهِ لُغَتَانِ: ضَمُّ الْهَمْزَةِ وَالْكَافِ وَبِهِ قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ، وَسُكُونُ الْكَافِ مَعَ ضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالضَّمِيرُ فِيهِ قِيلَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الزَّرْعِ وَمِنْهُ يُعْلَمُ حُكْمُ مَا قَبْلَهُ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَالْأَرْجَحُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ مَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَنْشَأَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالنَّخْلِ وَالزَّرْعِ حَالَ كَوْنِهِ مُخْتَلِفًا ثَمَرُهُ الَّذِي يُؤْكَلُ مِنْهُ فِي شَكْلِهِ وَلَوْنِهِ وَطَعْمِهِ وَرِيحِهِ عِنْدَمَا يُوجَدُ، أَيْ قَدَّرَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَ إِنْشَائِهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس بَعْدَ ذِكْرِ الْحَبِّ وَجَنَّاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} [36: 35].
أَيْ ثَمَرِ الْمَذْكُورِ. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَهًا وَاسْتَشْهَدَ لَهُ وَلِمَثَلِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى بِقَوْلِ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ** كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ

وَقَالَ إِنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، أَيْ لِمَ قَالَ: كَأَنَّهُ وَلَمْ يَقُلْ كَأَنَّهَا وَهِيَ جَمْعٌ مُؤَنَّثٌ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَلِكَ. وَالَّذِي رَاجَعَهُ فِيهِ هُوَ الرَّاوِيَةُ أَبُو عُبَيْدَةَ.
{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} أَيْ وَأَنْشَأَ الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا فِي الْمَنْظَرِ وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ فِي الْمَطْعَمِ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ التَّشَابُهُ بَيْنَ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ فِي شَكْلِ الْوَرَقِ دُونَ الثَّمَرِ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ مَا بَيْنَ أَنْوَاعِ الرُّمَّانِ مِنَ التَّشَابُهِ فِي الشَّجَرِ وَالتَّمْرِ، مَعَ التَّفَاوُتِ فِي الطَّعْمِ مِنْ حُلْوٍ وَحَامِضٍ وَمُرٍّ، وَفِي لَوْنِ الْحَبِّ مِنْ أَحْمَرَ قَانِئٍ قُمُدٌّ أَوْ فُقَاعِيٌّ وَأَبْيَضَ نَاصِعٍ أَوْ أَزْهَرَ مُشْرَبٍ بِحُمْرَةٍ. وَيُرَاجَعُ فِي هَذَا وَفِي مَكَانِ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلَهُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ (99) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْهُ تَعْلَمُ وَجْهَ تَخْصِيصِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ.
{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} أَيْ كُلُوا مِنْ ثَمَرِ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَسَيَأْتِي مَعْنَى هَذَا الشَّرْطِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْأَمْرَ هُنَا لِلْإِبَاحَةِ، أَيْ بَعْدَ أَنْ آذَنَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ الَّذِي يَسْتَغِلُّونَ مِنْهُ أَقْوَاتَهُمْ، آذَنَهُمْ بِأَنَّهُ أَبَاحَهُ كُلَّهُ لَهُمْ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ أَنْ يُحَرِّمَ شَيْئًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ حَقٌّ لِلرَّبِّ الْخَالِقِ لِلْعِبَادِ وَلِلْأَقْوَاتِ جَمِيعًا، فَمَنِ انْتَحَلَهُ لِنَفْسِهِ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ شَرِيكًا لَهُ تَعَالَى، وَمَنْ أَذْعَنَ لِتَحْرِيمِ غَيْرِ اللهِ وَأَطَاعَهُ فِيهِ فَقَدْ أَشْرَكَهُ مَعَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا فِي الْآيَاتِ بَعْدَهَا، وَالْكَلَامُ فِي التَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا مَنْعُ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ بَعْضِ هَذَا الثَّمَرِ لِسَبَبٍ غَيْرِ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ فَلَا شِرْكَ فِيهِ، وَقَدْ يُوَافِقُ بَعْضَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ مَنْعًا شَرْعِيًّا، أَيْ تَحْرِيمًا كَمَنْعِ الطَّبِيبِ بَعْضَ الْمَرْضَى مِنْ أَكْلِ الْخُبْزِ أَوِ الثَّمَرِ لِأَنَّهُ يَضُرُّهُ، فَمَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ الطَّبِيبِ الثِّقَةِ أَنَّ التَّمْرَ يَضُرُّهُ مَثَلًا حُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ، وَهَذَا التَّحْرِيمُ لَيْسَ تَشْرِيعًا مِنَ الطَّبِيبِ بَلِ اللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي حَرَّمَ كُلَّ ضَارٍّ، وَإِنَّمَا الطَّبِيبُ مُعَرِّفٌ لِلْمَرِيضِ بِأَنَّهُ ضَارٌّ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُخْبِرُ بِأَنَّ هَذَا الطَّعَامَ قَدْ طُبِخَ بِلَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ لَحْمِ كَبْشٍ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَيَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مَنْ صَدَّقَهُ أَكْلُهُ مَا لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَنْعُ السُّلْطَانِ مِنْ صَيْدِ بَعْضِ الطَّيْرِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، كَالْحَاجَةِ إِلَى كَثْرَتِهِ فِي حِفْظِ بَعْضِ الزَّرْعِ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَشَرَاتِ الْمُهْلِكَةَ لَهُ مَثَلًا. وَلَكِنْ مِثْلُ هَذَيْنِ لَيْسَ تَحْرِيمًا ذَاتِيًّا لِمَا ذُكِرَ يَدُومُ بِدَوَامِهِ بَلْ مُوَقَّتًا بِدَوَامِ سَبَبِهِ، وَلَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُحَرِّمَ شَيْئًا بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ شَرْعًا بِصِيَانَةِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، فَإِذَا أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ.